ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، فكلكم راع ومسئول عن رعيه ) متفق عليه.
وما أظن أحداً بحاجة إلى دراسة عميقة لتعاليم الإسلام ليدرك أنه دين شامل ينتظم جميع مجالات الحياة الإنسانية، ولا يدع أي ناحية فيها لتتسرب إليها قوى الشر الشيطانية.
الخاصة الرابعة: الموازنة بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة:
وهناك ظاهرة أخرى فريدة في دين الإسلام أنه يوجد تناسق بين حياة الفرد وحياة الجماعة، فهو يؤكد وجود الكيان الشخصي للفرد ويعتبر كل إنسان مسئولاً ومحاسباً أمام الله، ويضمن للفرد الحقوق الأساسية، ولا يبيح مطلقاً لأي كائن أن يعبث بها أو أن ينتقص منها، ثم هو يحافظ على كرامة الفرد وشخصيته، ويجعل ذلك في المقام الأول من تعاليمه التربوية. ولا يؤيد مبدأ ضياع الكيان الفردي في نطاق كيان الجماعة أو الدولة.
يقول الله جل وعلا: {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى } [النجم: 38-41].
ويقول : {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [البقرة: 286].
هذا في جانب حياة الفرد، أما فيما يتعلق بحياة الجماعة فالإسلام يغرسُ في النفس البشرية شعورها بمسئولية الجماعة ويربط بين الناس في نطاق الجماعة والدولة، ويأمر كل فرد بمراعاة الصالح العام المشترك.
فالصلاة في الإسلام تقام في جماعات وفي هذا ما يغرس الشعور بالنظام الجماعي في نفس الفرد الواحد.
والزكاة فرض على من يملك نصابها، قال تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } [الذاريات: 19]. وهي حق للجماعة طبعاً.
والجهاد فرض، وفي هذا ما يوجب على الفرد -إذا جد الجد - أن يبذل حتى روحه دفاعاً عن الإسلام والدولة الإسلامية، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع وهو مسئول عن رعيته.. ) متفق عليه.
ويقول: (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به ).
ويقول: (المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم ) رواه ابن ماجه. وصحح إسناده في الزوائد، وحسنه السيوطي.
وخلاصة القول: إن الإسلام يقرر الحقوق الفردية كما يقرر حقوق الجماعة، ويقيم نوعاً من التناسق والتوازن بين كل منهما، ويحددُ الحدود الدقيقة المناسبة لهما.
الخاصة الخامسة : عالمية وإنسانية:
الإسلام رسالة من الله إلى الجنس البشري بأسره ويقرر الإسلام أن الله سبحانه وتعالى هو رب العالمين: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وأن النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى الناس كافة، ويؤكد القرآن ذلك في قوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون َ} [الأعراف: 158].
وفي قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [الفرقان: 1].
وفي قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين َ} [الأنبياء: 107].
والإسلام يقرر أن الناس سواسية، مهما اختلفت ألوانهم وألسنتهم وأجناسهم ومواطنهم، وهو توجيه من الله إلى الضمير الإنساني، وينكر كل فارق من جنس أو طبقة أو مال.
ولا يستطيع أحد أن ينكر أن هذه الفوارق كانت وما تزال قائمة حتى في عصرنا هذا الذي يدَّعون أنه عصر النور والحضارة، ولكن الإسلام ينكر قيامها وبقاءها، ويقرر أن البشر جميعاً أسرة واحدة ربُّها الله، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أسود على أحمر، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى ) رواه أحمد، وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح.
فالإسلام دين عالمي في نظرته للأمور وعلاجه لها، ولا يجيز مطلقاً قيام الحواجز والمميزات التي نشأت في عهود الجاهلية؛ إنه دين يهدف إلى جمع البشر كافة تحت راية واحدة، وهو بلا شك بالنسبة لهذا العالم الذي مزقته الأحقاد والتنافس بين أممه المختلفة، رسالة الحياة والأمل في مستقبل عظيم مزدهر.
الخاصة السادسة: الثبات والتطور:
لقد كان القاضي كاردوزا Mr.Justice Cardoza على حق عندما قرر "أن أقصى ما يحتاج إليه وقتنا الحاضر هو فلسفة وسط بين الدعاوى المتصارعة ما بين الجمود والثبات وبين التطور والتقدم، لتمد العالم بمبدأ يؤمِّن نموه ".
والإسلام يقدم للعالم هذه الفلسفة الكفيلة بالتوازن بين الثبات والتطور معاً.
وفي الواقع إن المتأمل الدارس للحياة يجد أنها ليست جموداً بحتاً لا يقبل التطور؛ ولا تغيراً شاملاً بمعنى كلمة التغير.
فالأمور الرئيسة في الحياة تبقى على حالها ثابتة، مهما طالت بها الآماد أو اختلفت بها الأجواء، إلا أن طرق معالجة هذه الأمور ووسائل إيجاد الحلول لما يطرأ من مشاكل هي التي تتأثر وتتغير مع مرور الزمان.
والإسلام كفيل بتنظيم حالتي الثبات والتطور، فالقرآن الكريم والسنة المطهرة فيهما الهداية الثابتة الخالدة، وذلك من فضل الله رب العالمين.
هذه التعاليم الهادية هي من عند الله الذي لا يحده عز وجل زمان أو مكان وهي بذلك، سواء ما تعلق منها بالفرد أو بالجماعة، متناسقة تماماً مع خواص الطبيعة التي خلقها الله رب العالمين.. وهي بذلك أيضاً أزلية باقية، غير أن الخالق -جل شأنه - رسم لنا المبادئ والأصول، وترك للإنسان الحرية في كيفية تطبيقها في العصور المختلفة، بما يتفق مع الروح والظروف القائمة في كل منها. فكان "الاجتهاد " هو السبيل التي يترسمها رجال كل عصر لتطبيق هذه الهداية الربانية لمواجهة مشاكل الحياة في زمانهم. فتعاليم الهداية الأساسية ثابتة لا تتغير، أما وسائل تطبيقها فيمكن أن تتغير طبقاً لاحتياجات الحياة في كل عصر من العصور، وفي هذا ما يفسر لنا السر في بقاء تعاليم الإسلام ناضرة مع تجدد اليوم والغد.
الخاصة السابعة: تعاليم الإسلام سجل لا يتطرق إليها التحريف:
وأخيراً هناك الحقيقة المهمة الثابتة، تلك أن تعاليم الإسلام في القرآن الكريم باقية على أصولها ونصوصها كما أنزلها الله رب العالمين، يجد الناس فيها الهدى كما أراده الله، دون تحريف أو تبديل في قليل أو كثير، فالقرآن كما أنزله الله قد بقي بين ظهرانينا قرابة أربعة عشر قرناً، ولا زالت كلمات الله هي هي على هيئتها التي أنزلت عليها.
وحياة رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم- مروية بتفاصيلها، وتعاليمه باقية على أصولها، سجّلها التاريخ في دقة لم يعتريها أدنى تحريف، وهي قائمة بين أيدينا؛ ولقد تواترت أحاديثه وسيرته صلى الله عليه وسلم عبر القرون بمنتهى الدقة وصدق التحري والأمانة، وهذه حقيقة واضحة جلية يقرها حتى الناقدون من غير المسلمين.
يقول البروفسور رينولد أ. Prof. Reynaold A. Nicholso في كتابه (التاريخ الأدبي للعرب - ص: 143 ).
"القرآن وثيقة إلهية رائعة توضح بدقة سر تصرفات محمد في جميع أحداث حياته، حتى إننا لنجد فيه مادة فريدة لا تقبل الشك أو الجدال، نستطيع من خلالها أن نتتبّع سير الإسلام منذ نشأته وظهوره في تاريخه المبكر، وهذا ما لا تجد له مثيلاً في البوذية أو المسيحية أو أي من الأديان القديمة ".
هذه بعض الملامح الفريدة في الإسلام، وهي تؤكد وتبرهن أنه الدين الأكمل للإنسان، وأن المستقبل لهذا الدين.
وقد بهرت طبيعة هذا الدين مئات الألوف من البشر في الماضي وفي الحاضر فآمنوا بأنه دين الحق وأنه الطريق المستقيم الذي يجب أن تسلكه البشرية، وسيظل محتفظاً بكل خواصه ما بقي الزمان.
وكل من أوتي قلباً سليماً وحنيناً إلى الحق سيقول دائماً ويردد: "أشهد أنه لا معبود إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ".