الحلقة الرابعة
الثناء والمدح والحمد والشكر، الفاظ مترادفة، و
معناها واحد، وقيل بينهما فرق.. فالثناء بالمد يستعمل في الخير والشر إلا أنه يطلق في الخير ويقيّد في الشر، وربما يقيد فيهما معاً، ومنه الحديث:
( من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار )
والمدح : الثناء باللسان على الجميل مطلقاً ... والحمد : هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري بنعمة وغيرها ... والشكر : فعل ينبئ عن تعظيم المنعم ... سواء ثناءً باللسان أو اعتقاداً بالجنان أو عملاً بالأركان ...
وعليه قول الشاعر :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة
يدي ولساني والضمير المحجبا
قال تعالى : { اعملوا آل داود شكراً }
ولله در القائل:
إلهي لك الحمد الذي أنت أهله
على نعم ماكنتُ قط لها أهلا
متى ازددت تقصيراً تزدني تفضلاً
كأني بالتقصير أستوجب الفضلا
ولأجل ذلك تعذر شكرها
على من له في مثلها يجب ( الشكرا )
ذلك لأن شكر النعمة يستدعي شكراً آخر..
قال داود عليه السلام : ياإلهي كيف أشكرك وأنا شكري لك نعمة منك تستوجب عليّ بها شكراً آخر ..
فقال له الجليل الكريم: إذا علمت ذلك فقد شكرتني ..
والمتأمل في كلمتي ( الشكر والشرك ) بالرغم من التضاد يلاحظ أنها نفس الحروف: ( الألف واللام والشين والكاف والراء ).. وفي القرآن الكريم ترك الشكر يعني الكفر:
{ لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد }
ولو أن كل واحد منا ألقى نظرة على مامضى من حياته لعلم يقيناً أن الله تعالى تولى كل أموره، ولو تفكر في قوله تعالى:
{ والذي قدر فهدى }
يعلم أنها ( البوصلة ) التي قادته إلى ماهو فيه من نعيم، وعندما يكون الحجاب كثيفاً يعتقد الإنسان أنه هو الذي دبر وقدر فيكون بذلك مماثلاً لقارون حين قال:
( أوتيته على علم عندي )
وقد يقف عند السبب ويحجب عن المسبب، قال الإمام الفضيل بن عياض: "من وقف عند السبب فقد أشرك"..و.. نعم اللّّه تحيط بنا من كل جانب..لكن إبليس تعهد بحجبها حتى لاندخل في الشكر..
{ قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولاتجد أكثرهم شاكرين } : "الأعراف: 16-17"،
فنحمده سبحانه والحمد نعمة منه مستفادة، ونشكر له والشكر أول الزيادة.
وقفات وتأملات :
يُستهل الكتاب الكــريم بقـــــوله تعــــالى:
{ الحمد للّه رب العالمين }
، فالحمد للّه هي ( الفاتحة ) التي يفتتح بها القرآن العظيم، وهو - سبحانه - حمد نفسه وفرض هذا الحمد على خلقه، فهي الكلمة في البداية، وهي كذلك الكلمة في النهاية: { وآخر دعواهم أن الحمد للّّه رب العالمين}
وقال تعالى:
{ له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون } "القصص:70"،
قال تعالى:
{ الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا للّه أنداداً وأنتم تعلمون} "البقرة: 22"
وفي هذا السياق المحكم تم الربط بين "الألوهية والربوبية" حتى يكون التوجه لله الخالق والمنعم تاماً وخالصاً.. فلا تجعلوا له أنداداً بالشرك، ووحدوه بإفراده بالشكر، وقـــــــــال تعالى : { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل } "البقـــــــرة: 25"، فشكر النعمة في الدنيا هو السبيل الوحيد إلى زيادتها ودوامها في الدار الآخـــرة:
{ هذا الذي رزقنا من قبل }
ومن لم ير نعم اللّه في الدنيا لايراها في الآخرة، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسـلم: ( يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال: ياابن آدم. هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول لا واللّه يارب! ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له: يا ابن آدم. هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا واللّّه يارب. مامر بي من بؤس قط ولا رأيت شدة قط ) "رواه مسلم".
قال اللّّه تعالى:
{ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة. قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك }"البقرة: 30"
واللافت هنا أن الملائكة عليهم السلام عندما مدحوا أنفسهـــــم لــــم يكن في علمهم أفضــل من ( نسبح بحمدك )، وقال تعالى:
{ يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } "البقرة: "40-47-122"
وبالرغم من تكرارها في جميع هذه الآيات لم يكونوا من الشاكرين، بل كانوا عن تلك النعم غافلين وفي الأرض مفسدين، مما يؤكد أن طبائع اليهود لم تتبدل على مر العصور!
وقص اللّه علينا قصة سبأ لنعرف منها عقبى الكنود،:
{ لقد كان لسبأ في مسكنهم آية. جنتان عن يمين و شمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور. فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أُكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل.ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور } "سبأ: 15-16-17"
والآيات التي تتحدث عن جحود الإنسان كثيرة، قال تعالى:
{ هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بهاجاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا اللّّه مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين } "يونس:22"
ثم ماذا؟ تعالوا لنرى في الآية التي تليها:
{ فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق..} "يونس: 23".
الشكر حال الأنبياء:
وكان رسول اللّّه صلى اللّه عليه وسلم عبداً شكوراً في كل أحواله، إذا استيقظ من القوم يقول: { الحمد لله الذي رد روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره }، وإذا فرغ من الطعام يقول: { الحمد للّه الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين }، وإذا لبس ثوباً جديداً يقول: { الحمد للّّه الذي كساني هذا ورزقني إياه من غير حول مني ولا قوة }، وإذا عاد من سفر يقــــــــــول: ( آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون)، وقال رسول اللّّه صلى اللّه عليه وسلم: ( أتحبون أيها الناس أن تجتهدوا في الدعاء؟ قالوا: نعم يارسول اللّّه. قال. قولوا: اللهم أعناعلى ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ) "رواه الحاكم"، وعن أبي هريرة رضى اللّّه عنه قال
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] كان رسول اللّّه صلى اللّّه عليه وسلم يقوم حتى تورمت قدماه. فقيل له يا رسول اللّه أتصنع هذا وقد جاءك من اللّه أن غفر اللّه لك ماتقدم من ذنبك وماتأخر قال: أفلا أكون عبداً شكوراً ) "ابن خزيمة"، وفي رواية عن عائشة رضي اللّّه عنها: ( أن رسول اللّّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( التأني من اللّه والعجلة من الشيطان وماأحد أكثر معاذير من اللّّه وماشيء أحب إلى اللّه من الحمد ) "أبو يعلي"، وعن ابن عمر رضي اللّه عنهما
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حدثهم: أن عبداً من عباد اللّه قال: يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها. فصعدا إلى السماء فقالا: يا ربنا إن عبدك قد قال مقالة لاندري كيف نكتبها.قال اللّه وهو أعلم بما قال عبده. ماذا قال عبدي؟ قالا: يارب إنه قال: يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. فقال اللّه لهما.. اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها ) "ابن ماجة"، و عن أبي أيوب رضي اللّه عنه قال
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]قال رجل عند رسول اللّّه صلى اللّه عليه وسلم: الحمدللّّه حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: من صاحب الكلمة؟ فسكت الرجل ورأى أنه قد هجم من رسول اللّه صلى اللّّه عليه وسلم على شيء يكرهه. فقال رسول اللّه:من هو فإنه لم يقل إلا صواباً.فقال الرجل: أنا قلتها يارسول اللّّه أبغي بها الخير. فقال النبي صلي اللّه عليه وسلم: والذي نفسي بيده لقد رأيت ثلاثة عشر ملكاً يبتدران كلمتك أيهم يرفعها إلى الله تبارك وتعالى "الطبراني"، ومن شكر الأنبياء ماورد في سورة يوسف:
{ ذلك فضل اللّه علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشـــكرون }،
وقــــــال تعالى إخـــباراً عن نبيه:
{ ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً } "الإسراء: 3".
عبادة وإخلاص :
قال اللّّه تعالى:
{ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات مارزقناكم واشكروا للّه إن كنتم إياه تعبدون } "البقرة: 172"،
والربط هنا جلي بين الشكر والإخلاص: { إن كنتم إياه تعبدون }، والعمل الخالص والصحيح هو روح العمل وهو المـــقبول من اللّه"
{ وإنه لذو علم لما علمناه }
قــــــال قتادة: يعنى لذو عمل بما علمناه، وقال تعالى
( إن اللّه لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } "البقرة: 243"،
بالرغم من كل هذه الآلاء.. أكثر الناس لا يشكرون! وقد تكررت نفس هذه الآية في سورة يونس الآية 60، وفي سورة النمل الآية 73، وإذا تأملنا نجد أن اللّه تعاـــــلى يوجه خطابه للذين يعقـــلون :
{ واتقوني ياأولي الألباب}،
وقد تكررت هذه الآية في القرآن الكريم الذي يخاطب العاقلين نحو خمس عشرة مرة، قال تعالى :
{ ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن و الأنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لايبصرون بها ولهم آذان لايسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } "الأعراف: 179 "،
و لا تمام للنعم ولادوام إلا بالشكر، قال تعالى:
{ ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} "المائدة: 6"،
وتأمل النعمة الكبرى في سورة المائدة الآية" 3":
{ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً }،
وقال تعالى:
( وإن تعدوا نعمة اللّه لاتحصوها}
وردت هذه الآيه في سورة إبراهيم الآية 34
{ وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت اللّّه لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار)، وفي سورة النحل الآية 18
( وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها إن اللّه لغفور رحيم } ،
وقال تعــالى عن عباده:
{ ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور } "فاطر: 30"،
وبعد الفيض الإلهي والتكريم:
{ وقالوا الحمد اللّه الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور} "فاطر:34"،
وتأمل موافقة قولهم مع قـــــــــــوله تعالى
{ غفور شكور }،
وهنيئاً لهم:
{ ليأكلوا من ثمره وماعملته أيديهم أفلا يشكرون } "يس: 35"،
ومعلوم أن اللّّه تعالى هو الذي أحيا الأرض وأخرج منها الحبوب والثمرات إلا أنه سبحانه أضاف ذلك تفضلاً منه إلى كسب العبد، فقال:
{ وما عملته أيديهم }.
والشكر نعيم مقيم، قـــــــــال تعالى:
{ ولوأن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم} "المائدة: 65"، وجنات النعيم هي جنات الشكر أو هي جنات الشاكرين، فإذا شكروا في دار الفناء دام لهم هذا النعيم في دار الخلود والبقاء، فتحولوا من مثال النعيم إلى حقيقة النعيم، ومن نعيم يزول إلى نعيم مقيم، فنساء الدنيا المصوغات من ماء وطين مثال للحور العين، وفاكهة الدنيا المقطوعة الممنوعة مثال لفاكهة
{ لا مقطوعة ولا ممنوعة }
، وهكذا دواليك، وقال اللّه تعالى:
{ لا يؤاخذكم اللّه باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ماتطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين اللّه لكم آياته لعلكم تشكرون} "المائدة: الآية 89"،
وفي هذه الآيات يتمثل لنا التكافل الاجتماعي في أعلى مراتبه، ولم يشأ الكريم أن يشق علينا:
( من أوسط ما تطعمون أهليكم}،
والإسلام تكافلي في جميع العبادات المفروضة، فالصوم لترغيبنا في العطاء والإحساس بالجوعى والضعفاء، والصلاة لتنهى عن الفحشاء والمنكر، والحج مؤتمر تعارف وتواد وإظهار لترابط المسلمين وقوتهم، والزكاة تعاون اقتصادي، وكفارة الصوم جاءت على نفس نهج من حلف وحنث، فمن أفطر في رمضان عليه إطعام ستين مسكيناً أو عتق رقبة أو صيام ستين يوماً، واللافت أن اللهّ تعالى يقدم ما يتعلق بالتكافل الاجتماعي على الصوم.. يقدم ماكان لنا على ماكان له.. سبحانك رب ماأعظم كرمك على الناس.. بالرغم من أن أكثرهم لا يشكرون!
في ساحة الشكر :
قال الحسن البصري: إن اللّه ليمتع بالنعمة ما شاء فإذا لم يشكر عليها قلبها عذاباً، ولهذا كانوا يسمون الشكر: الحافظ . لأنه يحفظ النعم الموجودة، ويسمونه: الجالب. لأنه يجلب النعم المفقودة، وذكر ابن أبي الدنيا عن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه قال لرجل من همذان: إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر يتعلق بالمزيد وهما مقرونان في قرن فلن ينقطع المزيد من اللّه حتى ينقطع الشكر من العبد. وقال عمربن عبد العزيز رضي اللّه عنه: قيدوا نعم اللّه بشكر اللّه، وكان يقال: الشكر قيد النعم. وقال مطرف بن عبد اللّه: لأن أعافى فأشكر أحب إليّ من أن ابتلى فأصبر، وقال الحسن:
أكثروا من ذكر هذه النعم فإن ذكرها شكر، وقد أمر اللّه نبيه أن يحدث بنعمة ربه فقال:
{ وأما بنعمة ربك فحدث }،
واللّه تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده لأن ذلك شكرها بلسان الحال، قال الشعبي: الشكر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله، وقال أبو قلابة:
لا تضركم دنيا شكرتموها، وقال الحسن: إذا أنعم اللّه على قوم سألهم الشكر فإذا شكروه كان قادراً على أن يزيدهم، وإذا كفروه كان قادراً على أن يبعث بدل نعمته عليهم عذاباً، وقد ذم اللّه "الكنود"، قال الحسن
{ إن الإنسان لربه لكنود }
أي يعد المصائب وينسى النعم، وقد أخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم أن النساء أكثر أهل النار بهذا السبب. وقال: ( لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً. قالت: مارأيت منك خيراً قط )، فإذا كان هذا المآل والتردي بترك شكر نعمة الزوج - وهي في الحقيقة من اللّه- فكيف بمن ترك شكر نعمة اللّه؟
يا أيها الظالم في فعله
والظلم مردود على من ظلم
إلى متى أنت وحتى متى
تشكو المصيبات وتنسى النعم!
وذكر ابن أبي الدنيا من حديث أبي عبد الرحمن السلمي عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( التحدث بالنعمة شكر وتركها كفر ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير ومن لاشكر الناس لا يشكر اللّه والجماعة بركة والفرقة عذاب ) ورأى بكر بن عبد اللّه المزني حمالاً عليه حمله وهو يقول: الحمد للّه. استغفر اللّه. قال: فانتظرت حتى وضع ما على ظهره وقلت له: أما تحسن غير هذه؟ قال: بلى. أحسن خيراً كثيراً وأقرأ كتاب اللّه غير أن العبد بين نعمة وذنب. فأحمد اللّه على نعمه السابقة واستغفره لذنوبي. قلت: الحمال أفقه من بكر!، وذكر الترمذي من حـديث جابر بن عبد اللّه رضي اللّّه عنهما قال: ( خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا. فقال: قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن رداً منكم. كنت كلما أتيت على قوله
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان }
قالوا لابشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد )، وحتى يكون العبد خالصاً لله لابد من تزكية نفسه، كما قال بعض العلماء: حضرة القدوس محرمة على أرباب النفوس، وقال ابن قيم الجوزية: إذا أردت أن تكون عبداً خالصاً لله فاترك هذه الثلاث: ( أنا. ولي. وعندي )، فالأولى لإبليس: ( أنا خير منه )،
والثانية لفرعون: ( لي ملك مصر )،
والثالثة لقارون: ( أوتيته على علم عندي )،
سأل رجل عبد اللّه بن عمرو رضى اللّه عنهما: ألسنا فقراء المهاجرين؟ قال عبد اللّه: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم. قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء.
قال الرجل: فإن لي خادماً. قال عبد اللّّه: فأنت من الملوك، وكم من أناس يسهرون الليالي يخشون ما يأتي به الغد لأن الشيطان يعدهم الفقر..
قال الشاعر:
سهرت أعين ونامت عيون
لأمر يكون أو لا يكون
إن رباً كفاك بالأمس ما كان
سيكفيك في غد ما يكون
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا بشر ببشارة فيها خير له أو لأمته خر ساجداً، وسمى ذلك: سجود الشكر، فلما جاءه جبريل عليه السلام وقال يا محمد إن اللّّه عز وجل يقول من صلى عليك صليتُ عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه خر ساجداً شكراً للّه، وسجد شاكراً لما كتب له عليّ رضي اللّّه عنه بإسلام همدان، فخر ساجداً شاكراً ثم رفع رأسه وقال: السلام على همدان ، وسجد أبو بكر رضي اللّّه شاكراً للّّه حين جاءه خبر قتل مسيلمة الكذاب، وسجد عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه شاكراً للّه حين وجد ذا الثدية في الخوارج مقتولاً، وسجد كعب بن مالك رضي اللّه عنه شاكراً للّّه لما بشر بتوبة اللّّه عليه، وكان رسول اللّّه صلى اللّه عليه وسلم يعلم معاذ بن جبل رضي اللّه عنه ( اللهم أعني علي ذكرك وشكرك وحسن عبادتك )، ويقول الشيخ محمد الغزالي-يرحمه اللّّه-: ( تلفت يوماً إلى ما مضى من حياتي فرأيت صيباً من الخيرات قد غمرني ظاهره وباطنه ومتونه وحواشيه، وأحسست أن ما ضايقني أحياناً كان علاجاً حكيماً لعلل نفسية لو بقيت معي لكبت بي ونالت مني، وساءلت نفسي: كيف شكرها على هذا الخير الغدق؟ فكان الجواب: لقد شكرت النعماء يوم قدمت، فلما استقرت بدا الشعور الحار يبرد والاعتراف بالجميل يخف )! ورأيت من المناسب لحالي -والإشارة جلية- أن أختم هذا الحديث بما رواه الأصمعي في كتاب الأمالي، حيث قال: ( بلغني أن أحد الحكماء كان يقول:إني لأعظكم وأنا كثير الذنوب، مسرف على نفسي، غير حامد لها ولا حاملها على المكروه في طاعة اللّّه عز وجل، قد بلوتها فلم أجد لها شكراً في الرخاء ولا صبراً على البلاء، ولو أن المرء لا يحدث أخاه حتى يُحكم نفسه لَتُرك الأمر بالخير والنهي عن المنكر، ولكن محادثة الأخوان حياة للقلوب، وجلاء للنفوس، وتذكير من النسيان ).. فالحمد للّه على آلائه.. والصلاة والسلام على محمد وآله